السلام المستحيل- إسرائيل والحرب كخيار استراتيجي دائم

المؤلف: د. عمار علي حسن09.23.2025
السلام المستحيل- إسرائيل والحرب كخيار استراتيجي دائم

في معرض حديثه عن إقرار هدنة في غزة، أشار الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى أن "الولايات المتحدة ستواصل جهودها الدؤوبة لتعزيز دعائم السلام في المنطقة من خلال القوة، والبناء على الزخم الإيجابي لوقف إطلاق النار بهدف توسيع نطاق اتفاقيات السلام". هذا التصريح يثير تساؤلات جوهرية ستظل مطروحة للنقاش في المستقبل القريب، حول مدى إمكانية فرض السلام بالقوة القاهرة، وما إذا كان هذا النهج الإلزامي سيخدم "ثقافة السلام" المنشودة، أم أنه قد يمهد الطريق لنزاعات مستقبلية.

في البداية، يواجه الساسة والمفكرون العرب الذين دعوا مرارًا وتكرارًا إلى السلام وترسيخ ثقافته على مدى العقود الماضية، تحديًا كبيرًا يتمثل في تجاوز الصعوبات التي تعترض العودة إلى مثل هذا الطرح، في ظل ما وصف بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، واستمرار احتلالها لأجزاء من الأراضي السورية، وإعلانها عن نيتها البقاء في شريط حدودي من جنوب لبنان. بالإضافة إلى ذلك، يثير قلقًا بالغًا ما أبداه بعض أعضاء الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الحالي من نية للتهجير القسري لسكان غزة والضفة الغربية، ورفض "حل الدولتين"، بل والتمادي في استخدام استعارات دينية حول "إسرائيل الكبرى" التي تمتد في مخيلة المتطرفين اليهود من النيل إلى الفرات.

على مر العقود الماضية، استند المؤيدون لهذا الطرح إلى رؤية عامة تؤكد على أن السلام ممكن مهما طال أمد الحرب، مستشهدين بالتجربة المصرية الإسرائيلية كنموذج. كما استندوا إلى القانون الدولي والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن "الصراع العربي الإسرائيلي". بالإضافة إلى ذلك، طرحوا رؤيتهم في إطار ما وصفوه بـ "الواقعية السياسية"، معتبرين أن إسرائيل تمثل امتدادًا لمشروع غربي في المنطقة، وبالتالي فإن أي حرب ضدها هي في حقيقتها حرب ضد معظم الحكومات الغربية.

وفي الآونة الأخيرة، ظهرت تصورات أخرى، من بينها تلك التي تتحدث عن الأخوة الإنسانية التي تقوم على رؤية دينية حول "الأديان الإبراهيمية"، وأخرى ذات طابع سياسي تقوم على فكرة أن "تطبيع العلاقات" مع إسرائيل وطي صفحة "الصراع" إلى الأبد يحمل فوائد جمة للطرفين.

وكان أحد المداخل الرئيسية لتسويق هذه الأفكار، من أدناها إلى أقصاها، هو التأكيد على أنها الطريق الأقصر والأكثر أمانًا لحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، وتعزيز مصالح بعض الدول العربية في المجالات الاقتصادية والأمنية، وتفرغ دول الطوق للتنمية والازدهار، وكسب رضا الدول الغربية.

واستند هؤلاء إلى ما آلت إليه الأمور في الصراع مع إسرائيل، والذي تمثل في توقيع اتفاقيات سلام مع مصر عام 1979، والأردن عام 1994، ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وإقامة علاقات دبلوماسية وقنصلية وتجارية مع العديد من الدول العربية، بالإضافة إلى وجود تنسيق أمني بين تل أبيب وعواصم عربية فيما يسمى "مكافحة الإرهاب". وقبل ذلك، كانت القمة العربية التي انعقدت في بيروت عام 2002 قد تبنت السلام كخيار استراتيجي، وأبدت استعدادها لتطبيع العلاقات مع تل أبيب، شريطة انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، وهي المبادرة التي تراكمت على ما جاء في قمم أخرى سبقتها، وتحديدًا منذ عام 1996، حول السلام العادل والشامل.

وفي المقابل، ظهر طرح إسرائيلي يدعو إلى التعاون، قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز، حول إقامة علاقات اقتصادية مستدامة بين إسرائيل والدول العربية، تحت شعار "شرق أوسط جديد". كما تحدث بعض اليساريين الإسرائيليين عن السلام مع العرب، كما تجلى في رؤية "حركة السلام الآن"، وبدء التواصل مع أصحاب هذا التوجه، وهو التواصل الذي بلغ ذروته في "إعلان كوبنهاغن" الذي صدر في 30 يناير/كانون الثاني 1997، عقب اجتماع عدد من الساسة والكتاب من مصر والأردن وفلسطين وإسرائيل والاتحاد الأوروبي. وكان هذا الإعلان بمثابة أول تطبيع شعبي في تاريخ الصراع، وإن كان قد اقتصر في الواقع على بعض النخب، وواجه انتقادات حادة من معارضيه في جميع البلدان العربية الثلاث وغيرها.

على مر العقود، لم يتمكن أي من العرب الذين تحدثوا عن السلام من تجاوز عبارات حملت مبادئ راسخة في الأدبيات السياسية العربية، وهي: "السلام العادل والشامل"، و"الأرض مقابل السلام"، و"استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني". وحملت التصورات التي سوقت لتطبيع الدول العربية مع إسرائيل، فيما بعد، ظلال هذه المبادئ، إذ لم يكن بمقدور أحد أن يتجاهل القضية الفلسطينية بشكل كامل.

تعاملت أجيال من الشباب العربي، بمن فيهم الفلسطينيون، مع السلام، الذي اتخذ تركيبات لفظية مجازية من قبيل "مسيرة السلام" و"عملية السلام" و"التسوية السلمية"، على أنه مسألة ممكنة، حتى لو كان تحقيقها صعبًا، بسبب العقبات الكثيرة التي تعترض طريقها، والمرتبطة في الأساس بالمماطلة والتعنت الإسرائيليين، اللذين بلغا ذروتهما مع رفض تل أبيب الدخول في مفاوضات "الحل النهائي" مع السلطة الوطنية الفلسطينية، واستمرارها في الاستيطان، والاعتداء المتكرر على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا.

اليوم، لم يعد بإمكان قطاع واسع من هؤلاء الشباب النظر إلى السلام على أنه مسار مستمر في طريقه، وإن تأخر وصوله إلى الهدف المنشود، وأن آخر الحروب هو التفاوض، وآخر الصراع هو التسوية، وآخر الاحتلال هو الرحيل عما يقع تحت وطأته من أرض وإرادة وسيادة، بعد أن يدرك المحتل أن استمراره جاثمًا على الأرض والموارد والنفوس أمر صعب بل مستحيل.

فقد اتضح لجيل جديد أن القدرة الحربية، والنزعة العدوانية لدى إسرائيل لا تقيم وزنًا لقرارات القمم العربية الداعية للسلام، ولا بالقانون الدولي الرافض للاحتلال والإبادة، ولا بالمنظمات الدولية التي تعمل على مساعدة الشعب الفلسطيني، ولا بتلك التي تعمل من أجل السلام، مثل مؤسسة ثقافة السلام التي أنشأتها الأمم المتحدة عام 2000 بهدف الإسهام في بناء وتدعيم السلام من خلال التفكير والبحوث والتعليم والعمل، ولا بوجود رغبة متزايدة لدى بعض العواصم العربية في تطبيع العلاقات مع تل أبيب، ولا بالحديث عن الإخاء والتفاهم والتسامح وقبول الآخر. فإسرائيل تعرض بشكل سافر الحرب كخيار استراتيجي، وتريد أن تفرض كل شيء بالقوة المفرطة، فلا أرض مقابل سلام، ولا توقف للاستيطان في الأرض التي يراها العرب، بتأييد من قرارات ومواقف دولية، المكان الذي من المفترض أن تقام عليه دولة للفلسطينيين.

هذا الجيل هو من تحمس أكثر لفكرة مقاطعة الشركات التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وهو الذي خرج للتظاهر في العالم العربي حين أتيحت له الفرصة، وهو الذي ينشط في مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، متصديًا لدعاوى التطبيع أو الاستسلام أو تشويه صورة المقاومة ومحاولة النيل من عزيمتها، وهو الذي راح يلوم بل يوبخ أنظمة الحكم العربية والإسلامية؛ لأنها لم تنهض لنصرة الفلسطينيين كما ينبغي، موزعًا نقده هذا، من حيث فلسفته، على حمولات إنسانية وقومية ودينية، ومن حيث نوعه، على اتهامات تراوحت بين التواطؤ واللامبالاة، وما بينها من درجات مثل الصمت والعجز والتفريط.

لا يمكن إنكار حقيقة أن إسرائيل لم تعلن أبدًا أن "السلام هو خيارها الاستراتيجي"، إذ لم يصرح أحد من مسؤوليها بذلك في أي يوم من الأيام، ولا في أي مناسبة كبيرة كانت أم صغيرة.

وحتى لو تحدثت إسرائيل عن السلام، في إطار حملات العلاقات العامة التي تجد نفسها مضطرة إلى خوضها بين الحين والآخر، فإنها لا تجعل السلام خيارها الوحيد، بل تؤكد ممارساتها وعقيدتها السياسية المتكئة على تصورات دينية ويُفصَح عنها من حين إلى آخر، أن الحرب هي طريقتها الوحيدة لحسم الأمور لصالحها، وأنها تذهب إلى السلام حين تُهزم أو تتعثر أو تُحرج دوليًا، لكنها تتعامل معه على أنه مجرد هدنة بين حربين.

عندما تضع الحرب الراهنة أوزارها، من المتوقع أن تتبلور رؤيتان في العالم العربي، حتى لو تفاوتتا في الأهمية والتأثير، من حيث القدرة على الإقناع وحجم الجمهور الذي سيتفاعل معهما:

  • الرؤية الأولى: يرى أنصارها أن الحرب لن تحسم الصراع، وأن السلام هو الحل الأمثل.
  • الرؤية الثانية: يرى أصحابها أن السلام لا يمكن أن يتحقق في ظل تبني إسرائيل للحرب كوسيلة وحيدة لتحقيق أهدافها.

لكن أنصار هاتين الرؤيتين سيواجهون صعوبة جمة في الترويج لثقافة السلام في المستقبل القريب، باعتبارها قيمًا وممارسات تشجع الفرد على تقبل الآخر واحترامه والحوار معه، خاصة مع تنامي نفوذ اليمين المتطرف في الحياة السياسية الإسرائيلية، والأثر العميق الذي خلفته حرب "طوفان الأقصى" في الذاكرة الجماعية للجيل العربي الجديد، والتي أعادت إليها ذكريات أليمة من الحروب السابقة بين العرب وإسرائيل، خصوصًا بين عامي 1956 و1973. هذا الشعور لن تمحوه حملات العلاقات العامة التي قد يتم إطلاقها عقب الحرب، ورصد الأموال والأبواق لها بهدف خداع الشباب وحمله على نسيان الماضي والتغاضي عن الحقائق والرضوخ للأمر الواقع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة